فصل: مسألة التوسع في الإنفاق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة ما يروى من فضل عمر بن عبد العزيز وشدة خشيته لله:

فيما يروى من فضل عمر بن عبد العزيز وشدة خشيته لله عز وجل وسمعته يحدث عن مالك أن عمر بن عبد العزيز كان رجلا عيشه هذه القطاني، وأنه أكل يوما عدسا وشرب عليه ماء ثم استلقى فضرب على بطنه فقال: بطين بطيء عن أمر الله يتمنى على الله منازل الأبرار، شك ابن القاسم في ضرب بطنه عن مالك.
قال محمد بن رشد: في هذا بيان ما كان عليه عمر بن عبد العزيز من الخوف لله عز وجل مخافة التقصير في أمره، مع الرجاء فيما عنده من أن يحله محل الأبرار. وهذا هو الواجب أن يكون الرجاء والخوف في قلب الرجل سيين، فلا يأمن من عذابه ولا يقنط من رحمته، وبالله التوفيق.

.مسألة في تحسين بناء المساجد وذكر من أقام قبلة مسجد الفسطاط ومسجد الرسول عَلَيْهِ السَّلَامُ:

وسمعته يقول: المساجد كلها الوليد بناها، يعني كسرها وبنى هذا البناء. قال: وسمعت أنه أقام قبلة هذا المسجد مسجد الفسطاط الكبير نحو من سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتوا عليه بالتحرم والحبال. وسمعته يحدث عن مالك أن جبريل عَلَيْهِ السَّلَامُ هو الذي أقام لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلة مسجده.
قال محمد بن رشد: قوله كسرها وبنى هذا البناء، يريد أنه هدمها وبناها فحسن بناءها. وتحسين بناء المساجد وتحصينها مما يستجب، وإنما الذي يكره تزويقها بالذهب وشبهه والكتب في قبلتها، لأن ذلك مما يشغل المصلين ويلهيهم عن الصلاة. وقد مضى ذلك في رسم سلعة سماها، ورسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة. ولابن نافع وابن وهب في المبسوطة إجازة تزويق المساجد وتزيينها بالشيء الخفيف ومثل الكتابة في قبلتها، ما لم يكثر ذلك حتى يكون مما نهي عنه من زخرفة المساجد. وقد مضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب القول في إقامة جبريل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلة مسجده فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير قوله تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا:

ومن كتاب العرية:
قال سفيان في هذه الآية: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] يقول: قولوا أسلمنا مخافة السباء والقتل.
قال محمد بن رشد: نفى الله عز وجل الإيمان بهذه الآية وأوجب لهم الإسلام، فدل ذلك دليلا ظاهرا على أن الإيمان غير الإسلام، لأن الإيمان هو التصديق الحاصل في القلب، والإسلام هو إظهار الإيمان بالنطق بالشهادة والأعمال الظاهرة من الصلاة وغيرها. فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، فالإسلام أعم من الإيمان. وهذا في بلاد الإسلام حيث يجب على المؤمن إظهار إيمانه. وأما في بلاد الكفر حيث لا يمكنه إظهاره فهو مؤمن غير مسلم، إذ لا يمكنه إظهار سلامه. قال الله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] وقال: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]. وقد قيل إن الإيمان والإسلام اسمان واقعان على معنى واحد. واحتج من ذهب إلى هذا القول بقول الله عز وجل، وقوله الحق: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 35] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] وهذا لا حجة فيه، لأن المؤمنين مسلمون، فسماهم مرة باسم الإيمان ومرة باسم الإسلام. والكلام في هذا يتسع، وقد أشبعنا القول فيه في صدر كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.

.مسألة رفع الأصبع ورفع اليدين في الدعاء ومدهما:

في رفع الأصبع، ورفع اليدين في الدعاء ومدهما قال سفيان: الإخلاص رفع الأصبع عند الشهادة، والدعاء رفع بطون الأيدي، والابتهال مد اليدين.
قال محمد بن رشد: يريد أن رفع الأصبع عند الشهادة لله عز وجل بالوحدانية دليل على الإخلاص له بذلك، ورفع بطون الأيدي إلى الله إنما يكون في الدعاء والرغبة إليه، وأن مد الأيدي يكون عند الابتهال في ذلك. وهذا كله بين ليس فيه ما يخفى، وبالله التوفيق.

.مسألة يحلف على امرأته في ثوب اشتراه ألا تدرعه:

في الذي يحلف على امرأته في ثوب اشتراه ألا تدرعه قال ابن القاسم عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، عن عمر بن الخطاب أن رجلا اشترى لامرأته ثوبا فأتى به فسخطته فقال لها: أنت طالق إن تدرعته، فرجع به فرده، فدست المرأة خادمها فاشترته فأخذته فتدرعته. فلما جاء زوجها ليدخل قالت له إليك قد حرمت عليك، هذا الثوب قد تدرعته. فأتى عمر بن الخطاب فقال: قد حرمت عليك. وقال مالك بن أنس: إن كان نوى أن لا تدرعه من قبله فلا شيء عليه، وإلا فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قول عمر بن الخطاب قد حرصت عليك، يريد قد حنثت فيما قد حلفت به من الطلاق، لأنها طلقة رجعية فلا تحرم عليه، ومن حقه أن يرتجعها. وقول مالك إن كان نوى أن لا تدرعه من قبله فلا شيء عليه وإلا فهو حانث، ليس بخلاف لقول عمر بن الخطاب، إذ لا اختلاف في أن الحالف إذا نوى أن لا تدرعه من ماله فلا حنث عليه إذا تدرعته من مالها. وإنما يختلف إذا لم تكن له نية. فوافق مالك في هذه الرواية عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على أنه حانث ولم ينظر إلى بساط يمينه. ويأتي في هذه المسألة على القول بمراعاة البساط في اليمين إذا لم تكن للحالف نية أن لا حنث عليه. وقد اختلف في هذا قول مالك على ما هو منصوص عنه في غير ما مسألة من كتاب الأيمان بالطلاق من العتبية وغيره، وبالله التوفيق.

.مسألة رؤية الله عز وجل يوم القيامة:

ومن كتاب بع ولا نقصان عليك في رؤية الله عز وجل يوم القيامة:
قال ابن القاسم قال أبو السمح لمالك: يا أبا عبد الله، أنرى الله يوم القيامة؟ قال نعم. نجد الله تعالى يقول في كتابه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] ويقول لقوم: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. قال وحدثني ابن أبي حازم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن دون الله يوم القيامة سبعين ألف حجاب، منها حجب من ظلمة ما يفتقها بصر شيء، وحجب من نور ما يستطيع بصرها شيء، وإن منها لحجابا من ماء لا يسمع صوت ذلك الماء أحد لا يربط الله عز وجل على قلبه إلا خلع.
قال محمد بن رشد: الذي عليه أهل السنة والجماعة من الموحدين أن رؤية الله عز وجل جائزة غير مستحيلة، وأن المؤمنين يرونه في الآخرة بأبصار وجوههم على ما جاء به القرآن وتواترت به عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآثار، خلاف ما ذهب إليه أهل الزيغ المعتزلة والقدرية والخوارج والجهمية من أن رؤية الله عز وجل مستحيلة لا تجوز عليه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. فمن الدليل الواضح على جواز رؤية الله عز وجل أن موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ قد سأل ذلك ربه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] على ما أخبر الله عز وجل به عنه في كتابه العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] ومن المستحيل أن يسأله ما يعلم أنه لا يجوز في صفته أو أن يجهل هل يجوز ذلك في صفته أم لا، فتكون المعتزلة أعلم بصفات الله تعالى وما يجوز عليه مما لا يجوز منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ودليل ثان هو قوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] لأنه عز وجل تمدح بأن الأبصار لا تدركه، فلو كان من المستحيل أن تدركه الأبصار لم يكن له في ذلك مدح، وإنما كان المدح له في ذلك لانفراده بخلق الآفة في الأبصار التي تمنع من إدراكه في الدنيا مع جواز ذلك عليه. وكما هو قادر على خلق الآفة في الأبصار المانعة من رؤيته في الدنيا، فكذلك هو قادر على رفع الآفة من أبصار المؤمنين يوم القيامة حتى يروه على ما نطق به القرآن وتواترت به السنن والآثار. وإذا جازت عليه الرؤية بما ذكرناه وجبت له، إذ لا يقول أحد إنها تجوز عليه ولا تجب له، وإنما يقول أهل الزيغ والتعطيل إنها لا تجوز عليه. ومن الدليل على وجوب رؤية المؤمنين له يوم القيامة قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، وهو نص في النظر إليه حقيقة لا يحتمل المجاز. وقوله عز وجل في الكفار مهددا لهم: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، فلو كان هذا أمرا عاما للمؤمنين والكافرين لم يكن فيه تهديد للكافرين. وقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، على ما قاله أهل التفسير: إن الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، لأن الحسنى مستغرق لجميع الإحسان بدخول الألف واللام فيه، فالزيادة على ذلك يجب أن تكون من غير جنس المزيد عليه، ولا شيء يمكن أن يشار إليه في ذلك سوى رؤية الله عز وجل. ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه الثبت الثقات عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونقلوه عنه نقلا متواترا من رواية أبي بكر الصديق وعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وعمران بن حصين، وأبي هريرة، وعبد الله بن عباس، وجرير بن عبد الله البجلي، وغيرهم: أن المؤمنين يرون ربهم كما يرون القمر في ليلة القدر لا تضامون في رؤيته، وفي بعض الآثار: لا تضارون في رؤيته. وفي بعض الآثار ليس دونه حجاب. وأجمعت الأمة على أن الكافرين محجوبون عن الله تعالى يوم القيامة. وإنما اختلفوا في المؤمنين، فقال أهل الزيغ إنهم لا يرونه، وقال أهل السنة والجماعة إنهم يرونه على ما بيناه وصححناه، إلى أن نشأ رجل من أهل البصرة يعرف بأبي الحسن بن سالم، وكان من الوعاظ الذين يظهرون النسك ويظنه العوام من أهل العلم، فسألوه عن هذه المسألة فحملته الأنفة وما يعتقده العوام فيه من أنه من أهل العلم على أن أجاب فيها بغير علم، فأخطأ وقال: إن الكافرين يرون ربهم يوم القيامة، وأبى أن يرجع عن بدعته، وتبعه قوم على ذلك حتى قويت شوكتهم وصار قولهم مذهبا يذكر، والله أسأله العصمة برحمته.
وقول عبد الله بن عمرو بن العاص إن دون الله تعالى يوم القيامة سبعين ألف حجاب منها حجب من ظلمة ما يفتقها بصر شيء إلى آخر قوله، المعنى فيه أن الله تعالى يحجب الكفار عن رؤيته بهذه الحجب وبما يخلقه فيهم من المنع من إدراكها، لا أن الله تعالى يحتجب عنهم بهذه، إذ ليس بمحتجب ولا محجوب عن خلقه بشيء، لأن الحجاب إنما يستر الأجسام المخلوقة التي يحتوي عليها وتكون أكثر منها. ويشهد لهذا الذي قلناه ويؤيده قوله عز وجل: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فجعل الكفار هم المحجوبين عن رؤيته بما خلق فيهم من الحجب والمنع منها، ولم يصف نفسه بالاحتجاب ولا بأنه هو المحجوب. وقد روي أن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مر بقصاب وهو يقول: لا والذي احتجب بسبعة طباق، فقال له علي: ويحك يا قصاب، إن الله لا يحتجب عن خلقه بشيء، ولكن حجب خلقه عنه، فقال له القصاب: أفلا أكفر عن يميني يا أمير المؤمنين؟ قال لا، لأنك حلفت بغير الله تعالى، وبالله التوفيق.

.مسألة ما رئي لمالك من الرؤيا:

فيما رئي لمالك من الرؤيا قال عيسى وسمعت سليمان بن يزيد يحدث أنه قال، سمعت ابن الدراوردي يحدث قال: رأيت في منامي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعطي مالكا خاتمه، قال فأتيت مالكا فأخبرته بذلك وهو في مجلس ربيعة.
قال محمد بن رشد: تأويل هذا ما كان عليه رَحِمَهُ اللَّهُ من اتباع سنته والتمسك بها، وتركه لمخالفة ما صح عنده منها، وبالله التوفيق.

.مسألة السنة لا تعارض برأي:

في أن السنة لا تعارض برأي وحدث عن مالك عن ابن شهاب أنه قال: دعوا السنة تمضي لا تعارضوا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن السنة تمضي ولا تعارض برأي، يريد إذا صحبها العمل. وأما ما كان من السنن التي اتصل العمل بخلافها فيقدم ما اتصل به العمل عليها، لأن اتصال العمل بخلافها دليل على نسخها. وإذا عارض القياس ظاهر السنة تؤولت على ما يوجبه القياس. واختلف إن لم يمكن تأويلها على ما يوجبه القياس على الأصول أيهما يقدم؟ فذهب مالك على ما حكاه ابن القصار إلى تقديم القياس عليها إذا كانت من السنن المروية من طريق الآحاد التي لا يقطع على صحتها، وذهب أبو حنيفة إلى تقديم السنة على القياس، وبالله التوفيق.

.مسألة اشتغال الإمام عن الفقه بأمور المسلمين:

في اشتغال الإمام عن الفقه بأمور المسلمين وحدثني عن الثقة عن المغيرة بن أبي عبد الرحمن المخزومي أنه سمع مالك بن أنس يقول قال عمر بن عبد العزيز: من كان له شغل سوى هذا الشأن فإنه من شغلي الذي كتب الله لي أن ألزم، فعامل منه بما عملت ومقصر عنه عما قصرت، فما كان خيرا أتيته فبعون الله ودلالته، والله أرغب في تزكيته، وما كان سوى ذلك، فإني أستغفر الله لذنبي العظيم.
قال محمد بن رشد: معنى قول عمر هذا أنه أشقق من الاشتغال بأمور المسلمين عن التفقه، وخشي التقصير فيما اشتغل فيه من ذلك فاستغفر الله عز وجل منه. ومعنى قوله أستغفر الله لذنبي العظيم، أستغفر الله العظيم لذنبي، لأن الكلام فيه تقديم وتأخير. وقد مضت هذه الحكاية في صدر سماع أشهب، وبالله التوفيق.

.مسألة كراهة كثرة الكلام:

في كراهة كثرة الكلام قال: وقال مالك: دخل رجل منا، يعني أهل العلم، على رجل من أهل الأدب، يعني الملوك، فلما خرج من عنده قيل له: كيف رأيت فلانا؟ قال: أما لولا أنه يأتي بكلام سنة في ساعة. قال مالك: ليس كثرة الكلام إلا في النساء والخدم. قال ابن القاسم: قعد أعرابي في مجلس ربيعة، فتكلم ربيعة وأكثر، فكأنه وصله بشيء، فقال للأعرابي: ما تعدون البلاغة؟ قال الأعرابي: قلة الكلام. قال: فما تعدون فيه العي؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إن البلاغة والفصاحة إنما هي في قلة الكلام مع إدراك الصواب به واستيفاء المعاني فيه. ومن عي الرجل ألا يقدر على أن يعبر عما في نفسه بكلام وجيز حتى يأتي فيه بكلام طويل يكون فيه ما يستغنى عنه فقد يخفى الصواب في خلاله على السامع له، فمن العي أن يأتي بكلام كثير فيما يستغنى عنه باليسير. ومن التقصير أيضا ألا يأتي إلا بكلام يسير لا يستفاد منه ما قصد إلى بيانه. وقد حكي أن بعض الأمراء كتب إليه ملك الروم كتابا يرهب فيه عليه، فأغاظه ذلك وأمر كتابه بمراجعته، فكتب كل واحد منهم وأطنب وطول، فلم يستحسن شيئا من ذلك، وكتب إليه: الجواب ما ترى لا ما لا تسمع، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 42]، والسلام على من اتبع الهدى.
ومن معجز كلام الله تعالى في البلاغة قوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وكله معجز لا يقدر أحد أن يأتي في معنى منه بكلام يشبهه أو يقرب منه في الفصاحة، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير قول الله عز وجل أو يأخذهم على تخوف:

في تفسير قول الله عز وجل:
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] قال ابن القاسم: قرأ عمر هذه الآية: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] فقال: ما التخوف؟ ما التخوف؟ ما التخوف؟ فأقام كذلك زمانا فأتاه أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين إن ابني يتخوفني مالي، فقال له عمر: وما يتخوفك؟ قال يتنقصني مالي، فكبر عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وحمد الله.
قال محمد بن رشد: قد روي أن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: ما كنت أعرف معنى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]، حتى سمعت قول الشاعر يصف ناقة وإن السير ينقض سنامها بعد تمكنه واكتنازه:
تخوف السير منها تامكا قردا ** كما تخوف عود النبعة السفن

ومعنى التنقص في قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] أن يتنقصهم في أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم. وقيل إن المعنى أو يأخذهم على تخوف أي أو يأخذهم بعد أن يخيفهم، بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها. وأن يكون التخوف بمعنى التنقص على ما جاء في الحكاية عن عمر بن الخطاب أظهر من تفسير الآية، لأن الله عز وجل ذكر فيها أصناف الإهلاك، فمنها أن يهلكهم بانتقاص ثمراتهم وأموالهم، وبالله التوفيق.

.مسألة كثرة الحسد في الناس:

في كثرة الحسد في الناس وحدثني عن ابن القاسم عن الثقة أن عمر بن الخطاب قال: ما من أحد عليه من الله نعمة إلا وله عليها حاسد، ولو كان الرجل أقوم من القدح لقال قائل لولا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، وقد مضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم القول في الحسد وتبيين الجائز منه من المحظور فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة قول القائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعدل:

في القائل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعدل وحدثني ابن القاسم عن مالك «أن رجلا وقف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: اعدل يا محمد، فقال له: ومن يعدل ويحك».
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا الحديث بأكمل مما وقع ها هنا قرب آخر الرسم الأول من سماع أشهب والقول عليه هناك فلا وجه لإعادته. وبالله التوفيق.

.مسألة أهل البدع هل يخرجون ببدعهم من الإسلام:

في أهل البدع هل يخرجون ببدعهم من الإسلام؟ وقال ابن داود عن ابن كنانة أنه قال: أهل الأهواء أهل بدع وضلالة، وليس ذلك بالذي يخرجهم عندنا من الإسلام.
قال محمد بن رشد: قول ابن كنانة هو قول أصحاب مالك: أشهب، والمغيرة، وغيرهم، أن أهل البدع والأهواء لا يكفرون بمآل قولهم، ولا يعيد الصلاة من صلى خلفهم على ما وقع من ذلك في رسم يدبر ماله من سماع عيسى من كتاب المحاربين والمرتدين. ودليل هذا القول قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتتمارى في الفوق، فأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يشك في خروجهم من الدين، ومن شك في خروجه من الدين فلا يحكم أنه خرج منه إلا بيقين. وقد جاء عن مالك ما يدل على أنه حكم لهم بحكم الكفار بمآل قولهم، وهو تأويله فيهم قول الله عز وجل: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ} [آل عمران: 106] على ما وقع له في أول سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين والمرتدين. وهذا ليس على عمومه في جميع أهل البدع والأهواء، إذ من البدع والأهواء ما لا يكفر معتقده بإجماع، وهو ما لا يؤول بمعتقده إلى الكفر إلا بالتركيب، وهو أن يلزم على قوله ما هو أغلظ منه، وعلى ذلك الأغلظ ما هو أغلظ حتى يؤول به ذلك إلى الكفر، فهذا لا يكفر بإجماع. وهذا مثل الذي يعتقد أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
ومنها ما هو معتقده كافر بإجماع، وهو ما كان كفرا صريحا، كالذي يقول إن جبريل أخطأ بالوحي وإنما كان النبي علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وما أشبه ذلك.
ومنها ما يختلف في تكفير معتقده بمآل قولهم، وذلك مثل القدرية الذين يقولون إنهم قادرون خالقون لأفعالهم بمشيئتهم وإرادتهم دون مشيئة الله وإرادته، وإن الله لم يرد الكفر ولا العصيان ولا شاءه ولا قدره عليهم ففعلوه بقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم دون مشيئة الله عز وجل وإرادته وفي مثل المعتزلة الذين ينكرون صفات ذات الباري جل وتعالى من علمه وحياته وكلامه وإرادته إلى ما سوى ذلك من الأشياء التي تسد عليهم طريق المعرفة بالله جل وتعالى، وأشباههم من الروافض والخوارج والمرجئة، لأن هؤلاء ونحوهم هم الذين يختلف في تكفيرهم بمآل قولهم. فيرى من يكفرهم بمآل قولهم على من صلى خلفهم إعادة الصلاة في الوقت وبعده، ويستتيبهم أسروا بدعتهم أو أعلنوها على ما قاله في رسم يدير ماله من سماع عيسى من الكتاب المذكور، فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بالمرتد. ولا يرى من لا يكفرهم بمآل قولهم إعادة الصلاة على من صلى خلفهم ولا استتابتهم، وإنما يفعل بهم كما فعل عمر بن الخطاب من ضربه أبدا حتى يموت. ومنهم من استحب له إعادة الصلاة في الوقت، ومنهم من يفرق بين أن يكون الإمام الذي تؤدى إليه الطاعة أو غيره من الناس حسب ما مضى القول فيه في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.

.مسألة أول ما يرفع من أعلام الإسلام:

في أول ما يرفع من أعلام الإسلام وحدثني شيخ من أعلام المدينة أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يرفع الحديث إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أول ما يرفع من أعلام الإسلام كرم الأخلاق والحياء والأمانة».
قال محمد بن رشد: قوله أول ما يرفع معناه أول ما يذهب من الناس فلا يوجد فيهم، وبالله التوفيق.

.مسألة ما تقع به الحرمة:

فيما تقع به الحرمة وحدثني عن ابن القاسم عن مالك أنه قال: إذا نظر الرجل إلى امرأة مما أحل الله له تلذذا فهي حرام على أبيه وعلى ابنه وعلى كل من تحرم عليه ما مس وإن كان لم يكن نظر إلا إلى وجهها. وقال مالك: ما يحرم بالنكاح فهو محرم بملك اليمين.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك أن نظر الرجل تلذذا إلى شيء من محاسن المرأة التي تحل له بنكاح أو شبهة نكاح أو ملك يمين يحرمها على أبيه وعلى ابنه، وتحرم عليه أمها وابنتها. وقال ابن أبي ليلى والشافعي: لا يحرم شيء منهن بالنظر حتى يلمس، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي والليث. وقال الثوري: إذا نظر إلى فرجها متعمدا أو لامسها. وقال الحسن لا يحرم إلا بالوطء. واختلف في ذلك عن قتادة، واختلف في ذلك أيضا قول الشافعي: روي عنه أنه لا يحرمها إلا الوطء، وبه قال داود، واختاره المزني من قول الشافعي. ولا اختلاف فيما دون الوطء من الحرام أن الحرمة لا تقع به. وإنما اختلف هل تقع الحرمة بالوطء الحرام من الزنى، اختلف في ذلك قول مالك. قال في الموطأ إنه لا يحرم، وهو قول ابن شهاب وربيعة والليث بن سعد، وإليه ذهب الشافعي، وروي ذلك عن ابن عباس قال في ذلك: لا يحرم الحرام الحلال. وقال في المدونة: إنه يحرم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي؛ واختلف في ذلك عن سعيد بن المسيب. وكان عطاء يفسر قول ابن عباس: لا يحرم الحرام الحلال، أن معناه أن الرجل إذا زنى بالمرأة لا يحرم عليه نكاحها وقد أجمع فقهاء الأمصار على أن الرجل إذا زنى بالمرأة لا يحرم عليه نكاحها بعد الاستبراء، فنكاح أمها وابنتها أحرى أن لا يحرم، وبالله التوفيق.

.مسألة التوسع في الإنفاق:

في التوسع في الإنفاق وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قال الله تبارك وتعالى لابن آدم أنفق أنفق عليك».
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا الحديث والقول فيه في الرسم الأول من سماع أشهب فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة أتي بخبيض فأدخله في فيه ثم طرحه:

ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار:
قال ابن القاسم: حدثني سليمان بن القاسم أن عمر بن الخطاب أتي بخبيض فأدخله في فيه ثم طرحه فقال: ما تبقى حسنات امرئ أدخل هذا في جوفه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه لما لاكه فوجد انصياغه وطيبه لم يرد أن يأكله مخافة أن تدعوه نفسه إليه فيصير له أكله عادة، فيصير بذلك من المسرفين المذمومين بظاهر قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، فكره أكله لهذا، لا أن أكله حرام، فمن أكله لم يأثم، ومن تركه على الوجه الذي تركه عليه عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أجر. وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في رسم البز من سماع ابن القاسم.
وقوله ما تبقى حسنات من أدخل هذا في جوفه، معناه إن أكله كان من المسرفين في الإنفاق على نفسه، وكان ذلك سببا إلى أن يشح فلا يجود بما كان يجود به، فلا تبقى حسناته على المرتبة التي كانت عليه من الكثرة، وبالله التوفيق.

.مسألة الخمر يكون من التمر:

في أن الخمر يكون من التمر وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أن الله حين أنزل تحريم الخمر لم يكن بالمدينة خمر إلا خمر التمر».
قال محمد بن رشد: في هذا نص على أن الخمر تكون من التمر خلاف ما ذهب إليه بعض أهل العراق من أن الخمر المحرمة لا تكون إلا من عصير العنب، وما سواه من الأنبذة والأشربة النيئة والمطبوخة ليس بخمر، فما دون السكر منها حلال، على ما روي عن ابن عباس أنه قال: حرمت الخمر بعينها والسكر من غيرها. ومنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين إنما هي خمر العنب والتمر خاصة، على ما روي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الخمر من الكرمة والنخلة». ومنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين إنما هي الخمر التي من عصير العنب، وأن نقيع التمر والزبيب المخمر من غير طبخ بمنزلة الخمر في تحريم العين بخلاف سائر الأنبذة والأشربة، للحديث المذكور. وقولهم خطأ صراح ترده السنة الثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قوله: «كل شراب أسكر فهو حرام» وقوله: «ما أسكر كثيره فقليله حرام». والقياس الصحيح أنه لا فرق فيه بين الأنبذة المسكرة وبين الخمر لوجود علة التحريم فيها، وهو الإسكار الذي دل على أنه هو العلة في التحريم قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وحديث ابن عباس لا حجة لهم فيه، لأن بعض رواته يقول فيه: والمسكر من غيرها. وعندنا أن كل ما خامر العقل فهو خمر محرم العين، كان من العنب أو من غيره من الأشياء، وبالله التوفيق.